الجمعة، 15 يونيو 2012

محمد (صلى الله عليه وسلم).. من الإعداد إلي الإمداد





ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناء

اقتضت سنة الله أن يمهد للأحداث الكبرى في الكون، وأن يقدم لها بإرهاصات ومقدمات تكون علامات بارزة بين هذه الأحداث.

وقد عهد الله سبحانه للرسالة الأخيرة التي ستقود البشرية إلى بر الأمان بإرهاصات قبل ميلاد النبي (صلى الله عليه وسلم) ومع مولده وبعد مولده.

والأحداث الكبار دائماً تحوطها الرعاية ويحدوها الاهتمام.



أولاً:

الإعداد الكوني

بشرى عيسى عليه السلام.. (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ).

ولعل سائلاً يسأل:

لماذا بشر عيسى عليه السلام بمحمد (صلى الله عليه وسلم) ولم يبشر موسى عليه السلام بعيسى؟

إن النبوة ظلت سنوات طويلة في بني إسرائيل.. فرع إسحاق عليه السلام، والآن ستنتقل لفرع إسماعيل.

ولن يتقبل الفرع الأول هذا الأمر بهدوء بل سيثير الشكوك ويضع العراقيل وسيسعى جاهداً لصرف الناس بعيداً عن هذا النبي، ومن ثَمَّ جاءت البشارة على لسان آخر نبي في فرع إسحاق وهو عيسى - عليه السلام -.. وذلك ليكون حجة قائمة على أهل الكتاب إلى قيام الساعة، ومن باب التقدير والاهتمام بهذه الرسالة العامة والشاملة زماناً ومكاناً.

حادثة الفيل.. وقد مهد الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب بحادثة مشهودة رافقت ميلاده ألا وهي حادثة الفيل (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ*وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ).

انتكست معظم الأصنام.. التي كانت في الكعبة معلنة.. سيأتي الحق ويزهق الباطل.

غاضت بحيرة ساوة.. تلك التي كانت تعبد من دون الله معلنة أنه لا معبود بحق سوى الله، وكانت تعبد من دون الله.

خمدت نيران فارس.. معلنة أنه لا إله إلا الله وكانت تعبد من دون الله.

وذلك لأن في رسالته صلى الله عليه وسلم إقامة العدل في الأرض ودفع الظلم ومحو الجور، فكان ولابد أن تنفل أشد المواطن ظلماً وجوراً، وهي الدولة الساسانية التي يحكمها كسرى أنو شروان ، فأرتج في تلك الليلة إيوان كسرى وسقطت شرفاته الأربعة عشر، وهذا إرهاص بأن ظلم هذه الدولة وجورها قد آن زواله، وقد ولد من سيدفعه وينشر العدل مكانه.

ثم نجد أيضاً انفعال النبات والحيوان وتأثره.. فقد ثبت أنه نزل في بعض أسفاره قبل البعثة تحت شجرة يابسة فأعشوشب ما حولها وأينعت واخضرت.

وعندما أخذته حليمة السعدية صغيراً لترضعه حلت البركة لديها فامتلأ ضرع ناقتها، وأسرع في الخطا حمارها.

وقد كان اليهود والنصارى يدركون ذلك.. فيروي حسان بن ثابت فيقول: إني لغلام ابن سبع سنين أعقل ما أرى.. إذا بيهودي يصرخ ذات غداة على أطمة.. يا معشر يهود، فاجتمعوا إليه وأنا أسمع قالوا: ما بك؟ قال: طلع نجم أحمد الذي ولد هذه الليلة.

وقد أخبر ورقة بن نوفل خديجة عندما جاءته تقص عليه ما حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، فقال: هذا الناموس الذي نزل على موسى.. ليتني فيها جذعاً.. ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك.. أبشر يا محمد أنك أنت النبيّ المنتظر وبشر بك عيسى عليه السلام.

وقد نصح بحيرا الراهب عمه أبو طالب عندما رآه معه بأن يرجع إلى مكة وأن يحذر عليه يهود.

وقد حدث عثمان بن أبي العاص عن أمة أنها قالت: شهدت ولادة آمنة للرسول صلى الله عليه وسلم ليلة ولادته، فما من شيء أنظر إليه من البيت إلا نوراً، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى أقول لتقعدنّ عليَّ، فلما وضعته خرج منها نور أضاء له البيت والدار حتى جعلت لا أراه إلا نورا.

وهذا التأهب والاستقبال إنما كان لقدومه ومجيئه وكلما كان الزائر كريماً والمبعوث عظيماً كان الاستقبال والاستعداد له كبيراً، بل ودخل في استقباله الأنبياء السابقون، ولذلك أخذ الله عليهم العهد والميثاق لئن بعثت محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء أن يؤمنوا به ويتبعوه (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).

ثانياً:

الإعداد الذاتي لتلقي الوحي

لابد أخي الكريم أن تعلم أن فترة الإعداد استمرت طويلاً، وذلك لثقل المهمة التي سيكلف بها (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)، وقد دخل الرسول صلى الله عليه وسلم في أطوار وتقلبات منذ ميلاده حتى مبعثه كلها إعداد للرسالة.

فقد نشأ هذا الرسول كما ينشأ البشر لأنه من جنسهم وإن كانت محل اعتراض من الكافرين (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً).

إلا أن هذه البشرية ضرورية لتبليغ الرسالة، لأن أي دعوة لها جانبان: جانب تبليغ وجانب تطبيق، وجانب التطبيق لا يقل أهمية عن جانب التبليغ.. إنه جانب القدوة والأسوة فالرسول ينبغي أن يكون أول من يطبق ما يدعو إليه.

وقد ولد يتيماً فكفله جده ثم عمه أبو طالب واليتم صنو الخشونة.. فمن لم يولد يتيماً ينشأ في نفسه نوع من التدلل .. كما يجعل في نفسه ميلا ً إلى الدنيا ومغرياتها والله عز وجل يريد له غير ذلك.

ثم قضى فترة طفولته بعيداً عن عشيرته هناك في بني سعد لينشأ فتى قوياً يرضع الفتوة والقوة ولسان العرب.

ثم جاءت حادثة شق الصدر، وهذه من إرهاصات النبوة، ومن وسائل إعداده، حيث جاءه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرجه، فاستخرج منه حظ الشيطان ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم.

وقد نشأ هذا النبيّ أمياً.. والأمية في البشر العادي عيب، أما إذا كان صلى الله عليه وسلم أمياً ثم ينزل عليه كتاب يعجز البشر عن الإتيان بأقصر سورة فيه، ثم يربي به جيلاً تعجز البشرية كلها بمثله، فإن الأمية هنا تصير فخراً.

عصمة الله له من اللهو قبل البعثة.

يقول (صلى الله عليه وسلم) عن نفسه:

"ما هممت بشيء مما كانوا يفعلونه في الجاهلية غير مرتين، وكان الله يحول بيني وبينه.. قلت لغلام يرعى معي بأعلى مكة لو أبصرت غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب.

فقال أفعل.

حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفاً .

فقلت: ما هذا؟

فقالوا: عرس.

فجلست لأسمع فضرب الله على أذني فلم يوقظني إلا الشمس، وقد تكرر ذلك معي مرتين.

رعي الغنم.. لأن رعي الغنم دون غيرها تحتاج إلى صبر طويل، كيف يحافظ عليها من الذئاب، وحتى لا تشرد واحدة بعيداً عن القطيع، كيف يوفر المأكل والمشرب وهذا أيضاً نوع من الإعداد.

حادثة وضع الحجر الأسود.. وفيها أن شهد له الجميع بالصدق والأمانة، وتلحظ فيها فطنته وذكائه عندما وضع الحجر فوق الثوب.. ثم حملهم جميعاً للحجر، ووضعه في مكانه حتى يشتركوا جميعاً في الفضل والشرف.

والنبوة أيها الأخوة تبنى على أربع صفات.. الصدق والأمانة والتبليغ والفطنة، فتحقق له صلى الله عليه وسلم ثلاثة ولم يبق إلا التبليغ.

زواجه من السيدة خديجة.. وطالما أن الرسالة عظيمة فلابد أن تكون الزوجة عظيمة، فكانت خديجة؛ فالرسول بحاجة إلى زوجة تعينه وتتحمل معه، لها قلب الأم الذي يحنو ويعطي ولا ينتظر مقابلها، فكانت خديجة رضي الله عنها كذلك فكانت تحمل قلب الأم قبل قلب الزوجة، وهى التي خطبته إلى نفسها، وهذا دليل على أن صفاته وشمائله صارت مذاعة ومشهورة مما جعلها تفضله عن غيره.

فلما أخذت سن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدنو من الأربعين حبب إليه الخلاء في غار حراء، فكان يخلو فيه ويتعبد الليالي ذوات العدد، ثم يعود إلى بيته فيتزود لرحلة جديدة.. وهكذا؛ وهذا التحنث كان دورة في تربية القلب ومحاسبة النفس والنظر في ملكوت الله استعداداً للرسالة.

ولو ضممنا حادثة شق الصدر، وإخراج القلب لتطهيره، بجوار رعيه للغنم، ونظره في ملكوت السماوات والأرض بالإضافة إلى تحنثه وتربية قلبه على الخوف والرجاء والمحبة لخالق هذا الكون لوجدنا ذلك كله تمهيداً لتلقي القلب لنور الوحي فصار أمتن من الجبال (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).

ثم بعث صلى الله عليه وسلم في قريش دوناً عن سائر القبائل العربية، حيث أن قريشاً كانت بمثابة الرأس من الجسد وهي العاصمة الإيمانية لكل القبائل العربية، فلو دانت له لدان كل العرب.

ولذلك لما فتحت مكة وخضعت قريش أسلم كثيراً من القبائل ودخل الناس في دين الله أفواجاً، (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ*وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً*فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً).




ليست هناك تعليقات:


حينما تكبل فئة من الناس الذنوب وتغمس أفئدتهم في مستنقع الشهوات من عفن الغناء إلى صخب وانحطاط المشاهد وإدمان النظر إلى المومسات ... حينها يطلق قلمي العنان لرحلة المشتاق إلى بلاد الأشواق ... حيث اللذة الدائمة والنعيم المقيم ياأهل الدنيا