الخميس، 15 نوفمبر 2012

الهجرة النبوية


الهجرة النبوية immigration
يأتي لقاء هذا اليوم ونحن نقف على عتبات عام هجري جديد ونودع عاماً مضى، وتعاقب الليالي والأيام والأشهر والأعوام بالنسبة للمسلم يعني الكثير، يعني الوقوف وقفة المعتبر المتعظ الذي يحاسب نفسه وينظر فيما مضى وفيما هو مقبل عليه،  نسأل الله تبارك وتعالى أن يكون عام خير ورشد وبركة .
والأمة الإسلامية لها أحداث و ذكريات لها أعظم الأثر فى حياتها ،و حدث الهجرة غيّر مسيرة التاريخ ، و تجلى فيه صدق الإيمان ، فقد كانت الهجرة مؤشراً لانطلاق الدعوة ، و لم تكن الهجرة فرارا من المحنة ، أو مجرد انتقال مكانى ، و إنما كانت فاتحة العمل الجاد المتواصل .


استشار عمر فى التأريخ .. فأجمعوا على الهجرة
و لأهمية الهجرة المباركة و مكانتها بين الأحداث الإسلامية أرخ المسلمون بالهجرة كمعلمٍ بارز فى تاريخ الدعوة  .
و ذكروا فى سبب التأريخ بالهجرة " أن أبا موسى كتب إلى عمر : أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ ، فجمع عمر الناس ...
فقال بعضهم : أرخ بالمبعث ، و بعضهم قال : أرخ بالهجرة ، فقال عمر : الهجرة فرقت بين الحق و الباطل فأرخوا بها ، و ذلك سنة سبع عشرة ، فلما اتفقوا ، قال بعضهم : ابدؤوا برمضان فقال عمر : بل بالمحرم فإنه منصرف الناس من حجهم ، فاتفقوا عليه " .
و مما يروى أيضاً : أنهم أعرضوا عن التأريخ بمولده و مبعثه و ومماته صلى الله عليه و سلم – لأن المولد و المبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع فى تعيين السنة ، و أما الوفاة فأعرضوا عنه لما توقع بذكره من الأسف عليه صلى الله عليه و سلم .
لقد كان عمر رضى الله عنه و من معه يحرصون كل الحرص على ألا تذوب شخصية هذه الأمة فى شخصية غيرها من الأمم ، إذا لم يرضوا أن يكونوا فى تاريخهم تبعاً لأمة من الأمم ، بل كانوا مبدعين فى كل شىء .

لم تكن الهجرة فراراً ، و لم تكن خوفاً من الأذى ، و لكن توطيداً لدفعه ، و لم تكن جزعاً من المحنة ، و لكن توطيناً للصبر عليها ، أجل لم تكن فراراً من القدر ، و لكنها كانت فراراً إلى القدر .
الهجرة والأخذ بالاسباب و التأييد الإلهى
إن الهجرة يتجلى فيها التعامل مع الأسباب ؛ لأن ذلك من الدين ، إذ الأسباب ما هى إلا أدوات للقدرة العليا ، و مفاتيح لخزائن رحمة الله عز وجل ، إن من تأمل الهجرة ، و رأى دقة التخطيط فيها ، و دقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها ، يدرك أن التخطيط جزء من السنة النبوية ، بل هو جزءٌ من التكليف الإلهى فى كل ما طولب به المسلم .ومع هذا لابد وأن نعلم أن هذه الدقة فى التخطيط ، ما كان بها وحدها يكون النجاح ، لولا التوفيق الإلهى ، و الإمداد الربانى ، فالهجرة جرى فيها القدر الإلهى من خلال الأخذ بالأسباب البشرية .
و يظهر التأييد الإلهى فى أكثر من موقف فى الهجرة منها: إخبار جبريل عليه السلام للنبى صلى الله عليه و سلم بمكيدة قريش لقتله ، و أمره ألا ينام فى مضجعه تلك الليلة ، قائلاً له : { لا تبت هذه الليلة على فراشك الذى كنت تبيت عليه } ، و خروجه صلى الله عليه و سلم من بين أيديهم و هم لا يرونه ، و حماية الله و حفظه لنبيه صلى الله عليه و سلم فى الغار .
و يلاحظ أنها جاءت بعد أن أخذ الرسول صلى الله عليه و سلم بكافة الأسباب المتاحة ، و هذا شأن المؤمن مع الأسباب ، أن يقوم بها كأنها كل شىء فى النجاح ثم يتوكل – بعد ذلك – على الله ؛ لأن كل شىء لا قيام له إلا بالله ، فالنبى صلى الله عليه و سلم خطط و دبر للهجرة و أخذ بكل أسبابها الممكنة للبشر ، فى المكان و الزمان ، و الدليل ، و الراحلة ، و الصاحب ، و الإتجاه ، و الزاد ، و الغار ، و الخروج بليل ، و تسجية على رضى الله عنه على فراشه صلى الله عليه و سلم – كل ذلك مع توكله المطلق على ربه و مولاه الذى كان يجرى له الخوارق بعد استفراغ غاية الجهد ؛ و لذلك قال لصاحبه : { لا تحزن إن الله معنا } و لم يقل : لا تحزن إن خطتنا محكمة ، و هى بالفعل محكمة ، لكن الأمر كله لله من قبل و من بعد .
الثقة فى نصر الله
و أصحاب الدعوات لا ينظرون إلى الأمور على ضوء الحاضر المؤلم ، و الآفاق المظلمة ، الحاضر الذي يحكم فيه الحصار حول الدعوة و التضييق على الدعاة ؛ لأن ثقتهم فى وعد الله رغم العقبات تجعل هذه العقبات هباءاً منثوراَ ، و هذا اليقين هو الذى نطق به صلى الله عليه وسلم و هو يسوق هذه البشرى لسراقة بن مالك { كيف بك إذا لبست سوارى كسرى } .
الجميع أسهم فى صنع الهجرة 
لقد قدم على بن طالب دورا عظيم في الهجرة حيث نام رضي الله عنه في مكان الرسول الكريم، وهو يعلم ان قريش ستهوى عليه ولكنه لإيمانه بعظيم عمله ثبت وتشجع وأدى دوره على أحسن وجه.
فالعمل على تنمية طاقات الشباب ودفعهم الى الامام واستغلال مابداخلهم من طاقة عظيمة تمكنهم من تغيير الوضع الحالي ،ويتذكر شبابنا أن الصبر دائما تكون نهايته سعيدة ، إلا أنه يجب أن يكون مصحوب بالتوكل على الله، والأخذ بالأسباب ،فعلى شبابنا أن يسعوا ويجتهدوا في عملهم مع الصبر ،وليعلموا دائما أن بعد العسر يسر . وكذلك الرفع من شأن المرأة وحثها على التقدم ،وعدم الاقلال من شأنها في المجتمع فهي التى بامكانها أن تخرج لنا دعائم لبناء أمة إسلامية قوية ،تعمل على رفع راية الإسلام عالية مرفوعة ،ولا أحد فينا يستنكر الدور الذي أدته أسماء ينت أبى بكر عندما صمدت أمام قادة قريش وأبت أن تفشي سر رسول الله ،علاوة على ماقامت به أثناء الرحلة العظيمة من حرصها علىأ ن تقدم المؤن للرسول الكريم وتذهب له بالطعام والشراب .الالتحام والتعاون فيما بينا المسلمين ،والثبات أمام الأزمات ،والحرص الدائم أن يكون هدفنا واحد ،نسعى دائما من أجل الوصول إليه ،وأن نتخلي عن روح العصبية التى قد تؤدي بنا إلى الإنقسام ،ومن ثم إلى الانهزام الذي لايجني ثماره إلا نحن ،ولايخفى علينا ما كنا بين المهاجرين والانصار من تلاحم وايثار جمعهم الاسلام ليوحد كلمتهم وهدفهم في الحياة الاوهو بناء دولة اسلامية عالية الشأن.
بالهجرة أصحبت الأمة قوية ، و كانت الهجرة بداية القوة عند المسلمين قاعدة و قيادة ، و أسهم الجميع فى صنع أحداث الهجرة و ما بعدها ، أفراداً و أسر ، رجالاً و نساءاً ، شيوخاً و شباباً ، أغنياءً و فقراءً ، أصحاءً و مرضى ، فبنوا جميعا الدولة الإسلامية و ثبتوا أركانها ، إن الذى صنع تاريخ الأمة هى الأمة بكاملها التفت حول رسولها و قائدها و منهجها ، و الأمة اليوم مدعوة أن تصنع تاريخها و تغيير حاضرها بنفسها ، فتوجه الأحداث و تؤثر فيها .
الهجرة تضحية بكل شىء فى سبيل الدين
إن أعز ما يملكه الإنسان فى هذه الحياة هو دينه ، و الذى لابد له من تكاليف ، و التكاليف لابد لها من تضحيات ، و أبرز دروس الهجرة المباركة هى التضحية ، و التضحية قاسم مشترك لكل من هاجر ، و الهجرة شهادة صدق و تأييد لصاحبها بأنه يؤثر ما عند الله على هوى نفسه ، و يضحى بكل ما يملك فى سبيل العقيدة التى آمن بها ، و اختلطت بروحه ودمه ، لقد اشتملت الهجرة المباركة على نماذج رائعة ، تملك علينا كل المشاعر ، و نرى فيها سلوكيات تربوية رائدة ، نحتاج إليها فى مسيرتنا و تحتاج إليها الأمة فى جهادها و صناعة تاريخها ، فهذا أبو بكر ، و هذا على بن ابى طالب ، و هذا صهيب الرومى ، و هذا ضمرة بن جندب ، و هذه أم سلمة ، و هؤلاء أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نماذج ضحت بكل شىء ، المال و النفس و الوطن و الولد و الزوجة و الزوج .
الهجرة الباقية المستمرة
قال الإمام العز بن عبد السلام : الهجرة هجرتان : هجرة الأوطان ، وهجرة الإثم و العدوان ، و أفضلها هجرة الإثم و العدوان ؛ لما فيها من إرضاء للرحمن و إرغام النفس و الشيطان .
و قال الإمام ابن القيم : الهجرة فرض عين على كل أحد فى كل وقت ، و أنه لا انفكاك لأحد من وجوبها ، و هى مطلوب الله و مراده من عباده ، إذ الهجرة هجرتان : هجرة بالجسم من بلد إلى بلد .
و الهجرة الثانية : الهجرة بالقلب إلى الله و رسوله ، و هذه الهجرة الحقيقية ، و هى الأصل و هجرة الجسد تابعة لها ، و هى هجرة تتضمن ( من ) و ( إلى ) فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته ، و من عبودية غيره إلى عبوديته ، و من خوف غيره و رجائه و التوكل عليه إلى خوف الله و رجائه و التوكل عليه ، و من دعاء غيره و سؤاله و الخضوع له و الذل و الإستكانة له إلى دعائه و سؤاله و الخضوع له و الذل و الإستكانة له .
فأول مراحل الهجرة ترك المعاصي، والبُعْد عن مواطن الشبهات، ولن ينصر الدين رجل غرق في شهواته، والمعروف أن ترك المعاصي مقدم على فعل فضائل الأعمال، والإنسان قد يُعذر في ترك قيام أو صيام نفل أو صدقة تطوع، لكنه لا يُعذر في فعل معصية، وذلك كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة : "إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"؛ ولذلك عرَّف الرسولصلى الله عليه وسلم المهاجر الحقيقي بتعريف عميق من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، فقال فيما رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "إِنَّ الْمُهَاجِرَ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ".
مدوامة الدعوة و الحرص على استمرارها
إننا نجد من من معانى الهجرة الانتقال إلى موقع أفضل للدعوة ، و التماس المناخ الأرحب لنشرها بين الناس ، إن واجب الدعوة إلى الله ليس له وقت محدد كالصلاة و الصيام ، فهى واجب كل وقت ، و هى شاغل المؤمن و همه فى كل حين ، و هذا الدرس نتعلمه من النبى صلى الله عليه و سلم و هو فى طريقه إلى المدنية ، حيث لقى بريدة بن الحصيب الأسلمى فدعاه فاسلم بريدة هو و من معه .
الهجرة منهج للتغيير و الإصلاح
إننا فى حاجه ماسة اليوم إلى تحقيق هذه الهجرة فى حياتنا ، هجرة إلى الله و رسوله بفعل الطاعات و ترك المنكرات ، هجرة من الشر و الرذيلة إلى الخير و الفضيلة ، هجرة من الفرقة إلى الوحدة ، هجرة من السلبية إلى الإيجابية لتغيير الواقع المؤلم الذى تعيشه الأمة .

ليست هناك تعليقات:


حينما تكبل فئة من الناس الذنوب وتغمس أفئدتهم في مستنقع الشهوات من عفن الغناء إلى صخب وانحطاط المشاهد وإدمان النظر إلى المومسات ... حينها يطلق قلمي العنان لرحلة المشتاق إلى بلاد الأشواق ... حيث اللذة الدائمة والنعيم المقيم ياأهل الدنيا