وأَمَّا بَعْدُ، فقد دخلتُ بالأمسِ مكتبتي أبحثُ عن كتاب، أراجعُ فيه بعضَ الفوائد التي تُغَذِّي القلوبَ والألْباب، وبينما أنا مُنْهَمِكٌ في القراءةِ فيه.. طَرَق البابَ صديقي الفقيهُ النَّبِيه.. فرأيتُه في مِشْيَتِهِ يَخْتَال، وما أَنْ سلَّم حتى رفع حاجبَه الشِّمال.. وقال بلهجةِ الزَّهْو والافتخار.. إليكَ يا صديقي آخرَ الأخبار، هلْ تذكُرُ صاحبَنا القديمَ عباس.. الذي وَسِعَه بيتِي حين ضاقتْ به بُيُوتُ الناس، فلمَّا نزلتْ بي الشِّدَّةُ والضِّيق.. لمْ أجدْ منه ما ينتظرُ الصَّدِيقُ من الصديق.
قلتُ: مِنْ مُدَّةٍ لم أَعُدْ أسمعُ من أخبارِه.. ولا وقفْتُ معَ كثرةِ السؤالِ على آثاره..
قال: قد جاءَنِي بالأمسِ بعد أن غابَ النهار.. يُقَدِّم الأعذار، وقَدْ بَدَا على وجهِه الانكسار، يريدُ أنْ يعيدَ أيامَ الصِّلات.. فقلتُ: هيْهاتَ يا صديقي هَيْهات، فلا خيرَ فيمَن يلقاك بالصَّد، ولا يشكرُ الجميلَ ولا يحفظُ العهْد، وللهِ درُّ الحكيم القائل:
أوَ مَا بَلَغَكَ ما قالت الحكماءُ وما أكرمَه، وما أحسنَه وأجملَه وأعظمَه، إذا بلغكَ عن أخيك شيءٌ تكرهُه فالْتَمِسْ له عُذْرًا تعلمُه، فإنْ لم تجدْ عذرًا فقُلْ لَعَلَّ له عذرًا لا أعلمُه.
كان طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رحمه الله، من أَجْوَد أهل قُرَيْشٍ فِي زَمَانِهِ وأسخاه، فلما تنكَّر له زمانُه، أعرضَ عنه إخوانُه، فقالتْ له زوجتُه: مَا رَأَيْت قَوْمًا أَلأَمَ مِنْ إخْوَانِك.. قال: مَهْ مَهْ! لِمَ تقولين ذلك بلسانِك؟.. قَالَتْ: أَرَاهُمْ إذَا أَيْسَرْت لَزِمُوك، وَإِذَا أَعْسَرْت تَرَكُوك!.
فاعتذرَ عبدُ الرحمن إليْه، فأقبلَ الأميرُ مَعْنٌ عليه، فقال: أَقِمْ، فإنِّي لا أُؤَاخِذُك يا عبدَ الرحمن، فيما مَضَى ولا أُعَنِّفُكَ فيما يأتي من الزمان.
ووصف رجلٌ أخًا له في الله فقال، كنتَ لا تراه الدَّهرَ على أيِّ حال، إلا مُقْبِلاً على الدَّوَامِ إليْك، وإِنْ كنتَ أَحْوَجَ إليهِ مِنْهُ إليْك، وإِنْ أَذْنَبْتَ غَفَرَ ذنبَكَ وكأنَّه المُذْنِبُ الخطَّاء، وإِنْ أَسَأْتَ إليْه أَحْسَنَ وكأنه هو الذي أَسَاء.
يا صديقي إنَّ الكريمَ لا يكون حقودًا ولا حسودًا، ولا شامِتًا ولا باغيًا ولا فاجرًا ولا كاذبًا ولا مَلُولاً ولا عنيدًا، لا يقطعُ عن إخوانِه إِلْفَهُ ولا يُؤْذِيهم، ويُعْطِي مَنْ يرجوه منهم ويُؤَمِّنُ خائفَهم ولا يَجْفُوهم، يَعْفُو عن قُدْرَة، ويَصِل مَنْ قَطَعَه.
قال صديقي النَّبِيه: مَهْلاً أيُّها الشيخُ الفَقِيه:
قلتُ: اسمَعْ أُّيها اللَّبيب، ما يقولُه المُعَلِّم الأَديب.. إنَّ الكريمَ يَلِينُ إذا استُعْطِف، واللَّئِيمَ يَقْسُو إِذَا أُلْطِف، والكريمُ يُجِلُّ الكِرام، ولا يُهِينُ اللِّئام، ولا يُؤْذِي العاقل، ولا يُمَازحُ الأحمقَ الجاهل، يُؤْثِرُ إخوانَه على نفسِه وحالِه، ويَبْذُل لهم ما يملكُ مِنْ جُهْدِهِ ومالِه، إذا اطَّلعَ على رغبةٍ مِنْ أخٍ لمْ يتأخَّرْ عن إجابَتِه، وإذا عرفَ منه مَوَدَّةً لمْ ينظُرْ في أيامِ عَدَاوتِه، وإذا أعطاه مِنْ نفسِه الإِخَاء، لَمْ يَقْطَعْه بشيءٍ من الأشياء.
أسألُ اللهَ العظيمَ أنْ يُؤَلِّفَ بين قلوبِنا، وأنْ لا يَنْزَغَ الشيطانُ أبدًا بَيْننا، وأن يَسُلَّ سَخَائِمَ صُدُورِنا، وأنْ يجمعَ على أَتْقَى قلبِ رجلٍ قلوبَنا، والحمد لله رب العالمين، وصلي الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حينما تكبل فئة من الناس الذنوب وتغمس أفئدتهم في مستنقع الشهوات من عفن الغناء إلى صخب وانحطاط المشاهد وإدمان النظر إلى المومسات ... حينها يطلق قلمي العنان لرحلة المشتاق إلى بلاد الأشواق ... حيث اللذة الدائمة والنعيم المقيم ياأهل الدنيا