ما أشد صفعات الحقائق حينما توقظنا من خيالنا الحالم .. وتلقي بنا
بعيدا حيث أثار خطوة ألم ، فتدمى أقدامنا..
مازلت أتذكر رجفات الجمع
وشهقات تبث شهقةً تلو الأخرى
أجل ..تجدد لحظات كدت أظن اندثارها وغروبها الأبدي ..
تلك الوجوه الغابرة مازالت تحكي ظلمة تلك الليالي الكاحلة وكأننا
في حقبة قرون سالفة ؛ كنّا هنا نلهو ونسمر حتى الصباح ثم سرعان مانحمل رفاتنا إلى
ذاك المكان الذي يستقبل زوار المدينة .
ويالا العجب قبور تسوق من فيها إلى أسوار المقبرة الأم!!
وبينهم كانت هي جسدُ لكن نسمات روحه تحيا في زمن ولّى!!!
لوحة تجمع بين فناء الأجساد وبقائها ؛ هنا كنّا نتجاذب أطراف
الحديث ، ونتجرع كوبا من الشاي!!
وهنا كنّا نرسم الأماني ونتذوق ثمرها
وهنا كنّا نعقد رهان فنهرول إلى بيوتنا حينما تتلبد السماء غيماً ،
وتمطر وابل زخات من البرد تجمُد راحة كف أيدينا ، ونتنفس في بهو الشرفات هبات
نسمات باردة ..
وهنا وهنا
عالم وأدتهم في قلبي وهم أحياء ووعدتهم حين صخب أفراحهم ستشاطرهم
روحي لعبة كرنفال الماضي الحاضر!!!
فما تلبث أن تعيدهم وأداً بالأيدي إلى ذاك المكان الذي يفضلونه!!!
فتغص حناجرهم بأكوام الحجارة التي تبني سداً عظيما لتبقى هي تلك الشامخة
كشموخ الجبال ، وأنفة الكبرياء !
صلبةً هي كصخور الفيافي !!
تحدق في مغرات الحياة !!
وتسبر أغوار الكهوف .. بحثاً عن زمردة تزدان في عقد الآلئ ، وترسل
إشارات البهاء الفضية إلى كل عاشق منتظر في محطات القاطرة القصية حتماً كمسافر إلى
غير وجهةٍ حين التبحر في عيني صاحبة مبجلةً بالإجلالِ
جلجلت فؤاده وتجلت في سمو سويدائه عن كل رعناء جالت مروراً بين
لقطات العبور..
هنا هم ماكثون إلى حيث ماهم ماضون وهي ماضية تستقرئ قسمات الوجوه
.. تستطيع بأمر الإله ذلك أن تحيل صمت شفاههم إلى كلمات ناطقةٍ تداعب الأسماع!!
هاهم يرتدون أقنعة لاتبدي سوى ألوان الوداد!!!
أقنعة تخفي سقم العيون ، وتقرّح الأفواه ، وجلفة الجباه كحاجز منيع
شُكِل من أكوام الأتربة التي تغلق في وجهك ألف طريقٍ وطريق!!!
فتكاد تختفي أسرار الأقنعة إلا على هذه الساحرة البارعة !!
تلكم هي لايصمد أمامها قناع ، وتنزع كل زيغٍ بطن بنسيجها فلم تعد
ترى سوى الرموز المخلصة .. ومايلبث هؤلاء المقنعون إلا أن يغربوا عن الأنظار شيئاً
فشيئاً حتى لايبقى لهم جرة قلم في صفحة حياتها.. بل ويتبخرون في سماء الأيام فلا
يستنشق إلا رائحة تصاعد تلك الأبخرة النتنة محلقة ً عالياً
كمخلوق بغيض في فضاء النبذ والشقاء ثم تهبط إلى الأنفس الشح وأتلمس
حينها تمازج الألواح الشريرة .. وتحالف السنون لإخماد اتقاد شموسٍ تصدح بحق
اليقين ..
أتراهم قد أصابوا غي الدنا وشؤم الرجاءات؟
لعل ذلك السهم الناري قد بلغ منها مبلغاً، فلم تزل هي قبلما حلول
الغد القريب أشلاءً جمعت في زوايا المكان تجتاحها حمى الأنين وتغوص في غيابت جب
الصدور حتى حين من الدهر .. فلزمت محرابا في جوف ليل الأسى تناجي حبيب لايغرب عنه
حبيب إليه مضى.. عليم بمستقر الأرحام ومستودع الضمائر لايدانيه عظيم في دلائل
الإبداع وتفرد الملكوت ..
هو لاسواه أمدها بطوق النجاة ..
هو لاسواه أخرجها من ظلمة العقول إلى نور الهدى المبين..
هو لاسواه له الجباه خُشّعاً..
وله براهين الكون سُجّداً..
يدرك الأبصار وهو لاتدرك سبحاته الأنوار ..
وقد نما إلى إدراكها القاصر أن هنالك من يرقب .. يرى .. يسمع..
ينزلنَّ لطفه الخفي فتتلمس حينها برد الصبر وآيات الثبات حتى ترى بنور الإله
تبصراً ..
سبحانه تعالى على كرسيه استوى..
وهي كنبتةً في أرض اليبس شقت أوراقها وقاومت بالاحتضار اخضراراً
.. كومض خاطف يحيي ثماراً إيمانية في قعر الفؤاد أينعت.. كتأصل
الجذور واعتزاز النخيل .. ترسخ في الأعماق
وتكن للأمثال رمزاً.
لا .. لم أغدق ثناءً عليها بل هي للثناء أبهى حلة..
وقد وسمتها صروف الأزمان بألف علة وعلة ..
فما زادتها إلا كعود الإحراق يزداد طيباً..
تلك اللؤلؤة المنثورة في بوتقة المحار تبهج الأنظار ببريق العفاف
..
فهي لن تنشر الضياء رسماً ولافناً سوى ماكان منه من وراء الحجب ..
تلكم خطوطها الحمراء فليعوا دعاة التحضر وزيف التّبضّع إن نعيقهم
باطل وبضاعتهم مزجاة ..
ومازال
للحديث بقية ..
بقلم /
أفاق المزن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق