الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين , وبعد :
إن للمحبة في ديننا منزلةً عظيمة , يتجلّى من خلالها أن الإسلام قائم على المودة فيما بين العبد وربه , يحب رسوله , ينعم بأسرة ترفرف على جنباتها الألفة والوئام , يتفيؤ المجتمع ظلال هذه المحبة بأبهى صوره من : الحب , والتكامل , والتعاون , والتعايش.....وحب الله لعبد من عبيده أمر هائل عظيم ,وفضل غامر جزيل , لا يقدر على إدراكه إلا من يعرف الله سبحانه بصفاته كما وصف نفسه .
وبين يدي ذلك لابد أن تعلم – رعاك الله – التالي:
أولاً : أن المحبة مبنية على المشاكلة , واتفاق الطباع , فشبيه الشيء منجذب إليه , كما يقال: " الطيور على أشباهها تقع ".
قال تعالى :( الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات ... ) , وفي الحديث : " الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " مسلم .
لذا كان من أسباب الطلاق اختلاف الطباع , فالله خالق الرجال والنساء منهم الجبان, ومنهم الشجاع , ومنهم السخي , ومنهم البخيل , ومنهم الحليم , ومنهم الغضوب , فإذا اختلفت الطباع , ولم يصبر أحدهما على خلق صاحبه صار الطلاق.
ثانياً :القلب لا يستقر على حالٍ واحدة في المحبة , فهو في تغير , وتقلّب دائم , وكان من قسم النبي – صلى الله عليه وسلم - :" لا ومقلب القلوب " البخاري .
وقديماً قيل :
ما سمّي القلب قلباً إلا من تقلبه
فاحذر على القلب من قلب وتحويل
لذا كان لابد من ضابط لشطحات القلب , وانفعالاته بالعقل الذي يرى التفاوت العظيم بين لذة عاجلة زائلة تنقضي , وتبقى تبعاتها , وخزيها , وفضيحتها , وعذابها , وبين نعيم مقيم , آجل كريم , وصدق الله إذ قال : ( أفرءيت إن متعناهم سنين , ثم جاءهم ماكانوا يوعدون , ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ), وفي هذا الصدد تقول عائشة – رضي الله عنها - : " قد أفلح من جعل الله له عقلا " .
ثالثاً : إن الحب هو سبب بناء الكون , وإعماره بالحياة , وانتظام شؤون الخلق , وتناسلهم , وإبداعهم , وعملهم وبه يكون الترابط بين المسلم وأخيه , والأسرة الواحدة , والعشيرة والمجتمع .
رابعاً :الحب سر تحمّل الصعاب , والشدائد , والأهوال كل على حسب ما علق به , فالمحب لله والرسول تهون عنده الطاعات , بل يشتاق إليها , ولا يلتفت إلى إيذاء الناس له , ومحاربتهم وصدهم له عن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى , وإقامة دينه .
يقول أبو فراس الحمداني :
فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر
وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين
وكل الذي فوق التراب تراب
- كما إن من علق قلبه بالمال لايبالي بأخطار السفر , ومن علق قلبه بامرأة لا يلتفت لنداء العقل , وضياع الكرامة والمهابة ولوم الناس , بل ربما ردد قائلاً :
لي في محبتكم شهود أربع
وشهود كل قضية اثنان
خفقان قلبي واضطراب جوانحي
ونحول جسمي وانعقاد لساني
- يقول ابن القيم – رحمه الله - :" من أحب شيئاً غير الله عذّب به " .
لقد ثبتت في القلب منك محبة
كما ثبتت في الراحتين الأصابع
أخيراً : فالمحبة هي : الميل إلى ما يوافق المحبّ , وقد تكون بحواسه كحسن الصورة , أو بفعله إما لذاته كالفضل والكمال , أو لإحسانه كجلب نفعٍ , أو دفع ضرر .
والله أعلم